الاثنين، 27 أكتوبر 2014

مخاطبة الشاعر الشعبي لابنه

أحاديث في الأدب الشعبي

مخاطبة الأبناء في الشعر بين بركات الشريف وأبو دباس

عبدالرحيم الأحمدي

عرف الشعر بأنه خطاب مختار في المناسبات الهامة والمواقف المثيرة والأثيرة لدى الشاعر، وذلك لما لوقع الشعر من تأثير في المتلقي واستحسان لدى الذواقة، وهو خطاب إبداعي يعبر عن ملكة فنية يتميز بها الشاعر، ويرسم بواسطتها بصمة وأثراً إبداعيا يذكر به بين المبدعين، ويبقى طويلاً في ذاكرة الأجيال، وفي الوقت نفسه يفرغ به الشاعر شحنة من انفعالات تقلق مشاعره، وينوء بحملها حتى تستقر في أذهان الناس، وتشغل تفكيرهم:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

وما دام الشعر كذلك فكم تمنى كثير منا أن يكون شاعراً ليروي قنوات تواصله مع الآخرين بريق من الكلام العذب الساحر، ولكن البقاء لا يكتب لغير الشعر الجيد الذي تتناقله الأجيال جيلاً بعد آخر.

ويذكر أكثرنا قصيدتين من عيون الشعر في مخاطبة الأبناء، إحداهما للشاعر بركات الشريف والأخرى للشاعر النجدي أبو دباس، والعلاقة بين القصيدتين أن كلاً منهما دفقات من الأماني والنصح والتوجيه يبثها الشاعر آملاً أن تكون نبراساً لابنه يضيء له طريق الحياة الكريمة، ويجنبه تقلبات الزمن، ومغبات الهوى. ويختلف وضع الشاعرين من حيث المكانة الاجتماعية وسعة الرزق اختلافا ولديهما في مسعى كل منهما، وحظه في الحياة. فطموح الشريف وآماله أن يظل ابنه مؤهلاً لتقاليد الأسرة والسلطان الذي يتبوأ الأب وأجداده من قبل، ولن يكون له ذلك ما لم يكن على الهمة والعزيمة متمسكاً بمقاليد الأمور المؤدية إلى سدة السلطان ونبل السيرة، بينما شغل أبو دباس بمعاناته من اغتراب ابنه وخوفه عليه، وافتقاد الحماية التي يحققها الأبناء للآباء عند كبرهم، وتضجر الأب من فضول ما يسمع من جلسائه من ادعاءات تثار حول من يطول غيابهم تختلف عاداتها وتقاليدها عن منشئهم. ودباس وأبوه من مجتمع يعاني من الفقر مما دفع دباس للفرار في طلب الرزق.

والشريف يعتمد أسلوب الأمر في توجيه ابنه وضرب الأمثلة وعرض التجارب التي تصاحب الصراع على السلطة أو المكانة والثروة، ولا يهرب من ذكر المواقف التي تنجم عن ذلك الصراع بين أفراد الأسرة الواحدة، مع أنه يوصيه بالمحافظة على نهج الأجداد، كما ينبهه إلى أن النعم لا تدوم، وأيام السرور لا تستمر، بينما يعتمد أبو دباس مشاعر الأبوة وحرقة الشوق والزهد في أمور الدنيا رسولاً إلى ابنه، عله يعود إليه سريعاً، ولا غرابة في ذلك فكل إنسان بهمه يسري.

يتفق الشاعران في استهلال خطابيهما بالحث على تقوى الله وتجنب ما يدنس سيرة الرجل. والشريف يستهل خطابه بقوله:

يا مالك اسمع جابتي يوم اوصيك

واعرف ترى يا ابوك بآمرك وانهاك

وصية من والد طامع فيك

تسبق على الساقة لسانه لعلياك

أوصيك بالتقوى عسى الله يهديك

لها وتدركها بتوفيق مولاك

وهو خطاب أمر في حضرة ابن يمثل أملا رفيعاً في مرآة والد طموح.

أما والد دباس فخطابه دفقة حزن على فراق ابن لا يعرف أين ألقت به الأقدار، وكل ما يرجوه أن يحفظ الله الابن في غيبته ويرده سالماً. وبعد تعبير عن الحزن والإشفاق يخاطب ابنه قائلاً:

يا دباس انا اوصيك عن درب الادناس

ترى الذي مثلك يناظر مسيره

عليك بالتقوى ترى العز يا دباس

في طاعة اللي ما ينجيك غيره

ثم يسترسل الشاعران في التعبير عن اهتماماتهما فيقول الشريف:

احفظ دبشك اللي عن الناس يغنيك

اللي ليابان الخلل فيك يرفاك

واعرف ترى مكة ولاها ابناخيك

لو تشحذه خمسة ملاليم ما اعطاك

اجعل دروب المرجلة من معانيك

واحذر تميّل عن درجها بمرقاك

ثم يسترسل في نصيحته داعياً ابنه إلى الاعتماد على النفس لقضاء شؤونه وبناء مستقبله، والى حسن تربية أبنائه لصلاح أخلاقهم وتجنيبه شماتة الأعداء، ويحذره من تأثير عاطفة الأمومة في تربية الأبناء، إلى كثير من النصائح الهامة في حياة الإنسان مما لا يتسع المجال للاسترسال، فالقصيدة مدرسة تربوية لكل زمن، وقد حرص الناس على حفظها وترديدها، وهي تنم عن ثقافة الشاعر، وعلو همته واعتزازه:

والهقوة انك ما تجي دون اهاليك

ولا أظن عود الورد يثمر بتنباك

أما أبو دباس فقصيدته تفيض بمعاني الأبوة، والزهد في أمور الدنيا المادية:

وش عاد لو روّحت لي دحب الاكياس

مختلفة ما بين زر ونيرة

مالي بها يا جعلها بالف قباس

أو جعلها تذهب ولو هي كثيرة

والقصيدة حافلة بمعاني الأبوة والتعبير المؤثر، وكثير من القيم الاجتماعية في شتى مجالات الحياة، يمكن ذكر بعض الأبيات التي اشتملت عليها.

فلوعة الأب في القصيدة:

يا ونة ونّيتها من خوا الراس

من واهج بالكبد مثل السعيرة

ونين من رجله غدت تقل مقواس

ويون تالي الليل يشكي الجبيرة

ويا حمس قلبي حمس بنّ بمحماس

ويا هشم حالي هشمها بالنقيرة

ويا وجد حالي ياملا وجد غراّس

يوم اثمرت واشفى صفا عنه بيرة

على ثمر قلبي سرى هجعة الناس

متنحّر درب عسى فيه خيرة

إلى قوله:

متحيّر من عيلة البيت يادباس

أرجى ثواب الله وأخشى المعيرة

أخاف دقات العدا هم والانجاس

أهل الحكايا الطايلة والقصيرة

ويقال خلاّ عيلته عنّز الراس

أقفي وخلا عيلة له صغيرة

إلى قوله:

يصف الديار التي تغرب فيها ابنه:

هي ديرة اللي باغي كيفة الراس

ولا عاد له هم من الناس غيره

هيس ولد هيس وللصحف لحّاس

يفرح ليا نودي لذبح النحيرة

إلى قوله يمتدح مهنة الزراعة:

طلب المعيشة بالحراثة والاجناس

المشتري والبيع يوصف وغيره

قم انهض العيرات مع كل فراّس

يا دباس دورخيّر تستشيره

جدك وعمانك هل العزم والباس

أهل المواجب مكملين القصيرة

إلى قوله:

عشرين عام كلها ارجيك يا دباس

مثل الغرير اللي تولّع بطيره

وقوله يشكو الوحدة:

يا دباس انا يا ابوك ما انا ببلاّس

مير ان عيلات الرفاقة كثيرة

جنّبت وسط السوق أمشي مع الساس

واخذ شوي الحق واترك كثيره

ثم يختتم القصيدة متمنياً عودة دباس:

لا واعلا من قبل غوّال الانفاس

ومفارق الدنيا يجينا بشيره

عسى يطق الباب والناس غطّاس

يا والي القدرة عليك تعبيره

وبعد!

لا اعتقد أني قدمت هاتين القصيدتين كما يجب، وعزائي في ذلك ضيق المجال، ولكني أدعو القراء إلى الاطلاع عليهما في كثير من المراجع، لعل أقربها كتاب: الأزهار النادية في أشعار البادية، ولعل لي عودة إلى إجابة دباس وقصيدته التي لا تقل عاطفة عن قصيدة الأب المكلوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.